تأملات في حياة يونس بحري الأسطورة والإنسان
بقلم: الدكتور نزار محمود
لقد كتب الكثير في حياة هذا الرجل، وروي أكثر، بيد أن أكثر هذه الكتابات والروايات، رغم ما احتوته من معلومات، بعضها أصاب الحقيقة وبعضها لم يصب
، لم تتسم، حسب تقديري، بالعمق الفكري والتحليل النفسي لشخصية يونس بحري، ولم تنصفه حق إبداعه المتميز جداً، بل غالباً ما ركزت على ما كتب فيه وروي عنه من علاقات مع نساء كثيرات مستهدفين إثارة لدى نسبة من القراء والمستمعين ممن لا يركن عليهم في تقييم حياة مثل هذا الرحل.

يونس بحري مع أنور السادات 1956 بيروت
نحاول القاء الضوء على يونس بحري، ذلك الشاب المنحدر من مدينة الموصل والمولود فيها عام ١٩٠٠ أو ١٩٠٢ (كما اختلفت الرواية) بكل ما تحمله تلك الفترة من أحداث وما أحاطها من ظروف الحرب العالمية الأولى وما انتهت اليه من احتلال القوات البريطانية للعراق ومن ثم انتدابه. هذه الفترة التي تركت بصماتها في هوى وفكر الشاب الطموح “يونس” وصقلت مواهبه الأدبية والصحافية والخطابية، والتي وجدت في شخصية الملك غازي غير المحب للانجليز والميال الى انتمائه القومي العربي عمقاً ودعماً سياسياً له، في الفترة التي أعقبت الهيمنة التركية العثمانية وانبثاق افكار التحرر الوطني والهوى القومي.
وقد كان لمقتل الملك غازي اثر حادث ارتطام السيارة التي كان يقودها بعمود كهرباء، واشاعة “يونس” صحفياً من خلال جريدته التي كان يصدرها، بأن الانجليز كانوا وراء مقتله، وبالتالي تعريض نفسه لمساءلة كبيرة، اتيحت له الفرصة للهرب الى المانيا في ترتيب للقنصلية الالمانية في بغداد. ربما كانت لزرقة عينه ما ساعده على المرور من التفتيش في المطار.
لقد عرف الرجل عشرات القادة من ساسة وعسكريين ورجال اعلام وأمن ومخابرات، المان وعلى رأسهم هتلر وغوبلز وغيرهم، ومن عرب وفي مقدمتهم الملك غازي والملك سعود ورشيد علي الكيلاني ونوري السعيد وغيرهم.
وستبقى الاذاعة العربية، هنا برلين- حي العرب وكتبه ومنشوراته وخطبه ولغاته المتعددة وما مر به من أحداث ومواقف محرجة، شواهد على القدرة الفائقة لهذا الرجل.
كان يونس بحري قد عاش النازية في أوج تألقها والحرب العالمية الثانية في أشرس معاركها وهو يكتب ويخطب فيها داعماً انتصاراتها، وممجداً أهدافها حالماً بأمة عربية كريمة. غير أن الأقدار لم تكن مع انتصار نازية هتلر، فهرب متخفياً في أرجاء المعمورة، حتى عنت عليه دياره وحن الى وطنه العراق، فعاد اليه بعد سنين مغامرات كثيرة، ليجد نفسه منزلقاً الى خدمة من هرب منهم من أزلام النظام الملكي، والذين سرعان ما انتهوا في انقلاب ثورة الرابع عشر من تموز عام ١٩٥٨ فيجد نفسه في السجن متهماً بعمالته للنظام الملكي البائد. غير أن حياته لم يكتب لها ان تنتهي الى إعدام، فأخرج من السجن وغاب بعض الوقت في دولة عربية أخرى، ثم ليعود بعد سنوات ويعيش بقية عمره في وطن ولادته مهملاً، لم تكترث به السلطة، فيموت غريباً عام ١٩٧٩ في عاصمة ذلك البلد الذي ولد فيه، بعد أن بدأ النسيان والخرف ينخر في ذاكرته.
اننا في يونس بحري، أمام شعب لا يعرف كيف يصنع من أبنائه مفكرين وعلماء ونجوم تاريخ، ولا يعرف في كثير من الأحيان احترامهم!
برلين، 14.04.2023